بلدي نيوز - (تركي مصطفى)
الحملة الجوية الروسية ضد الجيش الحر وحاضنته الثورية, جاءت نتيجة التفاهمات بين واشنطن وموسكو والتلاعب بالملف السوري بنقله من جنيف إلى أستانا، ما أحدث عدة تحولات عسكرية في سورية، فرضتها مجريات القتال من (أستانا 1 إلى أستانا 6), أعادت صياغة الخريطة ميدانيا ودفعت بالحرب إلى حيث تريد موسكو.
- توطئة:
تشهد الحملة الجوية الروسية في سورية تطورات جديدة متلاحقة تجسدها عدوانية الروس ضد الشعب الثائر وفصائل الجيش السوري الحر، وكل معارضي نظام الأسد, يتسع معها حجم الجريمة، وتتنوع فيها وسائل القتل، كما تتزايد وتيرة العدوان بهدف فرض الاستسلام على جميع السوريين بلا قيد ولا شرط, وفق اتفاق أستانا الذي ابتدعته موسكو بموافقة واشنطن, وأطراف إقليمية فاعلة, لابتلاع سورية وفق مصالحها, وهذا ما أظهرته نتائج كل لقاء في أستانا التي تعطي للروس فرصة ترتيب أوراقه استعدادا لقضم مناطق جديدة.
تستعرض هذه الورقة التطورات الأبرز في العدوان الروسي ضد الجيش السوري الحر, وحاضنته الشعبية, وما أنتجت من مجازر متنوعة, وتناقش بالتحليل دوافع وأهداف الروس من هذه الحملة, لتعكس جوهر أستانا وحقيقة ما تريده الأطراف بإعادة تشكيل وترتيب نفسها ومواقعها كمحصلة لمآلات أستانا.
كما تحاول الورقة، وفقًا لمجريات العدوان الروسي، تقديم صورة متوقعة لهذا العدوان في حيز التشابكات الداخلية والإقليمية والدولية وانعكاساتها السياسية على الثورة السورية, كما تطرح الورقة سؤالا في فضاء القوى المناوئة للأسد هل يمكن ترميم التصدعات القائمة بينهما وجسر هوة الفجوات بلملمة بقايا قوتها دون أجندات لمواجهة العدوان المستمر؟
مقدمة:
أفرزت استراتيجية موسكو المتطورة في إدارة الملف السوري نتائج كارثية بعد أن منحت لنفسها في أستانا رخصة قتل الشعب السوري، بذريعة محاربة الإرهاب من جهة, ولتجريب أسلحتها الفتاكة الحية من جهة أخرى, تثبيتا للأسد في منصبه وشرعنة لاحتلالها المفتوح خارج الهيئات الدولية المقررة في جنيف. وما تقوم به روسيا يعكس حقيقة لا جدال فيها, وهي فرض واقع سياسي على المشهد السوري بالقوة العسكرية, كنتيجة طبيعية لسلسلة لقاءات أستانا التي أباحت استهداف مقرات ومراكز الجيش الحر التي تسلمت خرائط توزعها باعتبارها فصائل معتدلة ما شكل نقطة تحول خطيرة يتحمل مسؤوليتها قبل أي أحد وفد قوى الثورة المشارك في أستانا, والذي اكتفى ببيانات الإدانة الشبيهة بالمضغ بلا أسنان.
وفي هذا السياق, كثفت روسيا من قصفها المناطق المحررة، واستقدمت من مطاراتها قاذفات عملاقة استهدفت مراكز الجيش الحر, والمدن والبلدات المحررة، في مشهد استعراض قوتها على أشلاء الأطفال والنساء والدمار الهائل في ممتلكات المدنيين, وذلك لزيادة وزنها المنخفض إلى أقل من النصف في كفة ميزان واشنطن، ضاربة عرض الحائط بكل تعهداتها التي قطعتها على نفسها في نصوص سلسلة اتفاقات أستانا.
بعد تجاوز جنيف ونسف أستانا, فإنّ تجربة الحسم العسكري في تثبيت المناطق المستولى عليها، هي المألوفة في مفهوم روسيا التي تدرك أن من يملك القوة، ويجيد إدارتها بكفاءة وفاعلية، يستطيع الاستيلاء على السلطة, وطي أقوى الوثائق السياسية.
جاء مؤتمر أستانا كمحصلة لهزيمة حلب المدوية, ومقدمته اتفاق أنقرة الذي نص على إجلاء سكان المنطقة المحررة من مدينة حلب لتبدأ الماكينة الروسية بالتعاون مع إدارة أوباما السابقة, بعملية وأد الثورة في مقبرة أستانا, غير أن التغييرات في الإدارة الأميركية, ووصول الجمهوري دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة أربك حسابات كل الأطراف, لتأتي الخطوة الاستباقية من موسكو في "مناطق تخفيض التصعيد" قطعا للطريق أمام عزم واشنطن على إقامة مناطق آمنة, لتحتدم المساومات الدولية في جنيف على اقتسام مناطق النفوذ بينما يتفرج عسكر وساسة الثورة على تقطيع أوصال وطن قدم مليون شهيد ومثلهم من المعتقلين وأضعافهم من المشردين, مما يدفع المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري إلى مراجعة نقدية لانكسارها, ورسم استراتيجية جديدة لمجابهة الميليشيات الشيعية عسكريا, والمخططات الدولية سياسيا.
-دوافع العدوان الروسي:
تكثف روسيا من غاراتها الجوية التي ينفذها طيرانها الحربي وذاك التابع لنظام الأسد على الأحياء السكنية في مدينة إدلب وريفها، وكذلك أرياف حماة وحلب واللاذقية، وسط ارتفاع في عدد شهداء الغارات من المدنيين، فضلاً عن دمار كبير في الأبنية والمراكز الحيوية من مشافي ومدارس وأفران, أدت إلى مقتل عشرات المدنيين في المناطق المحررة, ويمكن إجمال دوافع هذه الحملة بالتالي:
1- نقل المعركة إلى إدلب:
تشهد المناطق المحررة شمال غرب سورية تصعيدا عسكريا روسيا لافتا وغير مسبوق بعد تقدم قوات قسد بمؤازرة القوات الخاصة الأميركية إلى الضفة الشرقية للفرات وسيطرتها على أغلب آبار النفط والغاز كحقل كونيكو للغاز, وحاولت موسكو استعراض قوتها باستهداف قوات قسد بالطيران فتدخلت واشنطن برفع علمها, وأوقفت القصف ضد تنظيم الدولة الذي هاجم قوات نظام الأسد في حويجة صكر مما أدى إلى مقتل 70 عنصرا بينهم ضباط, كما استهدفت غرفة العمليات الروسية المشتركة فقتلت كبير المستشارين الروس الجنرال فاليري أسابوف وبرفقته عدد من الضباط, وانصاعت روسيا للقرارات الأميركية التي ألزمتها بحدود نطاق عملياتها العسكرية وتهديدها في حال امتدادها نحو الشرق في إشارة لاستيلاء واشنطن على مناطق الإنتاج النفطي في وادي الفرات, وبذلك تعطلت العمليات العسكرية الروسية في محافظة دير الزور بعد تقدم قوات قسد على طول طريق دير الزور الحسكة باتجاه البوكمال والحدود العراقية وصولا إلى قاعدة التنف الأميركية, بينما يقوم التنظيم باستنزاف الميليشيات الشيعية وتلك التابعة للأسد في بادية حميمة والمحطة الثانية, امتدادا إلى فيضة ابن موينع وصولا لقرية الشولا بدعم جوي روسي شبه معطل نتيجة المنطقة الصحراوية الواسعة. لذلك تحول العدوان الروسي إلى محافظة ادلب المحررة.
2- تصفية "المعتدلين":
تمثل الحملة العدوانية الروسية خرقا لاتفاق "خفض التصعيد" الذي أعلن عنه في ختام مباحثات "أستانة-6"، باستهدافها الجيش السوري الحر. حيث لم يترك قمع نظام الأسد الوحشي فرصة لبقاء الثورة سلمية رغم كل محاولات الناشطين والتشكيلات الثورية للحفاظ على الطابع السلمي للحراك الشعبي، الذي واجهه الأسد بالاعتقال والتنكيل والقتل وإذلال المجتمع السوري بالاقتحامات الوحشية لأحياء مدنه وقراه, فانتظم الكثير من الشبان المدفوعين بقناعة الحق بالدفاع المشروع عن النفس والرد على الممارسات الوحشية والمهينة لقوات نظام الأسد في تشكيل عسكري باسم الجيش السوري الحر في نهاية شهر تموز يوليو 2011، كإطار جامع للسرايا والفصائل والكتائب التي تحمل السلاح موكلة إلى نفسها مهمة حماية المظاهرات السلمية بداية ومقاومة اقتحامات قوات الأسد للمناطق التي تشهد حراكاً شعبياً ثورياً، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الثورة، هي مرحلة المقاومة المسلحة، التي يعززها إيمان معظم قيادات السوري الحر بوطنية الثورة ومهماتها الأساسية، وهي إسقاط نظام الأسد وتحرير سورية من الاحتلال الإيراني والروسي بهدف بناء سوريا حرة لكل مواطنيها، تجسيدا لأهداف الشعب السوري بكل مكوناته المتطلعة للحرية والكرامة والتخلص من حكم الاسد المستبد, من هنا التزم براية الثورة, وحماية المدنيين والدفاع عنهم والقتال لتحقيق طموحاتهم وتقرير مصيرهم. وفي هذا السياق تأتي الحملة العدوانية التي استهدفت مراكز الجيش الحر، إذ يرى الروس في بقائه خطرا يهددهم قبل أي شيء رغم ما يعانيه من صعوبات ومشاكل ذاتية وموضوعية, لذلك طالت أعنف الضربات الجوية فيلق الشام أحد أبرز فصائل الحر المشاركة في أستانا, وارتكب مجزرة مروعة في تل مرديخ قضى فيها أكثر من أربعين شهيدا, كما استهدفت الحملة قيادات في الحر, مثل أحمد عيسى الشيخ قائد صقور الشام, وتوفيق شهاب الدين قائد حركة نور الدين الزنكي, والقائد المعروف في حركة أحرار الشام حسام سلامة.
وما يفعله الروس من جرائم تستهدف الحر كونه بديلا لجيش الأسد الذي قتل ودمر البلاد وهجر أهلها, ورحب بالمحتل الروسي, من هنا تعمل روسيا على التخلص من الجيش الحر إثر سلسلة من الهجمات العدوانية التي ما برح يشنها ضد الشعب السوري الثائر وذراعه العسكري.
3- هزالة وفد قوى الثورة:
في مسألة مشاركة ممثلين عن قوى الثورة السورية في أستانا ثمة أسئلة يجب البحث عن أجوبة لها, وأولها هل موسكو عازمة على إيجاد تسوية سياسية تنهي الحرب في سورية وفق القرارات الأممية الصادرة عن الهيئات الدولية في جنيف؟ وفي الجواب كيف يمكن للروس التحول إلى وسطاء سلام, وهم يرون في الأسد الواجهة الشرعية لاحتلالهم سورية, وينحازون انحيازا أعمى إلى جانبه, وما يقومون به هو الترجمة الفعلية لممارسات الأسد ضد الشعب السوري, ومهما حاولوا البحث عن تسوية سلمية عادلة يجدون أنفسهم منساقين ومتوافقين مع رؤية الأسد, وبالتالي فالروس ينحازون ضمنيا وعلنيا الى طرف الأسد في تقديم حلول تمكنت من حمل وفد قوى الثورة على القبول بها, والأخطر من ذلك ما غرد به مؤسس الجيش السوري الحر رياض الأسعد متهما وفد قوى الثورة بأنهم سلموا روسيا إحداثيات المقرات بوصفها ضامن، وقامت الأخيرة بقصفها. فيما نفى" إدريس الرعد" عضو اللجنة الإعلامية في وفد قوى الثورة العسكري، الأنباء المتداولة عن تسليم الوفد لأي خرائط تتعلق بالفصائل, وإذا تجاوزنا مسألة الاتهام, فإن حضور وفد قوى الثورة في أستانا الأول يعني القبول بإملاءات موسكو التي اعتبرت احتلال حلب المحررة نصرا لها, والجلوس مع الروس والإيرانيين يعني الاعتراف بهما, والأنكى من هذا أن وفد قوى الثورة وضع نفسه في مأزق استجداء الدول لتبنيه أستانا, ومما يثير الدهشة كيف يقبل الاستمرار في أستانا ومقراته تتلقى الضربات الجوية من الضامن الروسي والمدفعي من الضامن الايراني؟
4- القبول بالأسد:
تتوالى حمم القاذفات الروسية في السقوط على المدن والقرى المكتظة بالسكان في المناطق المحررة، لدفعها إلى الرضوخ والقبول بالأسد, وهي رسالة أيضا إلى الهيئة العليا للمفاوضات السورية قبيل عقد مؤتمر الرياض 2 الذي وضع أمام خيار واحد؛ هو قبول وجود الأسد في المرحلة الانتقالية، دون التطرق إلى مصيره نهاية المرحلة الانتقالية، أو أحقّيته من عدمها في خوض الانتخابات الرئاسية التالية لهذه المرحلة, هذه الرسائل تنقلها القاذفات الروسية بعيدا عن كل القرارات والبيانات الدولية, حتى أن المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا يروج لبقاء الأسد تماشيا مع الرؤية الروسية ومواقف أغلبية حكومات الغرب العاجزة عن فعل أي شيء سوى التناغم مع ما تريده واشنطن وما تفرضه موسكو.
وبالتالي فالهجمة الروسية التي تسبق مؤتمر الرياض تجاوزت أسماع الهيئة العليا للمفاوضات للقبول بمنصة موسكو لأجل تسوية الأوضاع في سورية استنادا للرؤية الروسية بموافقة واشنطن ودول الغرب لإعادة تأهيل الأسد, وفي حال الرفض سيؤدي ذلك إلى عودة قصف المناطق المحررة, مع تفعيل المسار السياسي باعتماد منصتي القاهرة وموسكو كبديل يقبل بالأسد, بل ويطالب به.
- تفاعلات العدوان الروسي:
اعتمدت روسيا منذ دخولها العسكري إلى سورية في 30 أيلول/سبتمبر عام 2015م سياسة إخضاع القوى الفاعلة داخليا وخارجيا بما يخدم مصالحها, وتصفية الخصوم الجديين لها, ابتداء بالتخلص من فصائل الجيش الحر الذي يشكل أمرا واقعا له وزن عسكري يمكنه من التعاون مع دول أخرى, والتخلص من هيئة تحرير الشام القوة الضاربة في الشمال السوري تحت شعار "مكافحة الارهاب", ومع وصول الرئيس الروسي بوتين لتركيا يبدو أنه سيضع اللمسات الأخيرة "للصفقة الكبرى" في الشمال السوري على غرار المقايضة التي أجراها في اتفاق الجنوب مع إسرائيل والأردن, وذلك بعد إدراج تركيا تحت استراتيجيتهم, وموافقة أنقرة على فتح صيغة عمل ثلاثية مع الروس والإيرانيين تخلوا بموجبها عن حلب المحررة, مقابل منحها نفوذا في مثلث (أعزاز-الباب-جرابلس), لفصل الكانتونات الكردية عن بعضها, ويجري الحديث عن اختلافات بين موسكو وأنقرة حول منطقة ادلب بعد الحملة التي تشنها الطائرات الروسية حيث استهدفت الفصائل العسكرية المعارضة المشاركة في مفاوضات أستانا وتم تحديد موعد اللقاء بين الرئيسين بوتين وأردوغان اليوم الخميس في أنقرة لمناقشة تفاصيل منطقة خفض التصعيد الرابعة وتطوراتها الميدانية وشكلها المستقبلي.
يبدو أن مسار الحملة العدوانية الروسية, تجسد استراتيجية موسكو القائمة على القوة المفرطة لفرض إملاءات على الأطراف الأخرى بصرف النظر عن القتل والتدمير بوحشية بالغة بعد قيام طيرانها بقصف المدن والبلدات والقرى السورية وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها من المدنيين, وتمكنت من إعادة رسم المشهد الميداني بتوسيع جغرافية نظام الأسد والميليشيات الإيرانية التي أطلقت يدها في المناطق السورية المحررة, وشاركت معها في التغيير الديمغرافي الذي شمل مناطق واسعة في الريف الدمشقي وحمص وادلب, كما انتزعت حلب المحررة من فصائل الثورة المسلحة. وتمكنت من التغلغل في جنيف عبر زرع منصتي موسكو والقاهرة, وإزاحة وفد الهيئة العليا للتفاوض كممثل شرعي لمحادثات جنيف كطرف وحيد في تمثيل الشعب السوري الثائر, لتتبنى المنصتان الموقف الروسي بحذافيره، وتستمدان قيمتهما من حاجة الروس إليهما, وقامت روسيا بسحبهما من منظومة الأسد كطرف معارض ضمن محورها تكريسا لاحتلالها سوريا, ودأبت روسيا على تشتيت المعارضة عبر المنصات بهدف التحكم بتحديد المعارضة التي تتوافق ومصالحها, واستبعاد المعارضة الخارجة عن إطار رؤيتها, بعدما بات وفد نظام الأسد دمية إعلامية تعمل موسكو من خلاله تنصيب نفسها وريثا له بعدما بات ميليشيا كباقي الميليشيات المتوزعة على الأرض السورية, وبالتالي تمكنت روسيا من التلاعب بالملف السوري في كل المحافل الدولية والإقليمية بما يتوافق ومصلحتها.
ويبقى السؤال مفتوحا, هل يمكن لفصائل المعارضة السورية لملمة نفسها في جسد عسكري موحد بعيدا عن الأجندات والارتهان لإرادة الآخرين بهدف تشكيل قوة عسكرية تدفع القتل عن المدنيين وتتحول لقوة فاعلة في الخارطة السورية المتشابكة قبل أن يأخذها الطوفان؟